إذا انتقلنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وجدنا أنه من ذرية إسماعيل، وهم الفرع الثاني لذرية الخليل عليه السلام الذين هم العرب، لكن هل كل العرب من بني إسماعيل؟
هناك خلاف كبير بين العلماء، والاختلاف مرجعه إلى اختلاف الأحاديث في أبواب المناقب والفضائل، ونحن لا يهمنا ذلك لطول الكلام فيه، لكن نبقى على المشهور والراجح، وهو أن ذرية إسماعيل هم عرب الشمال فقط، وأما عرب
اليمن فليسوا من ذرية إسماعيل، وإنما ذريته هم عرب الشمال الذين بعث منهم النبي صلى الله عليه وسلم، الذين قال فيهم النبي عندما جاءت الصدقات: {
هذه صدقات قومنا} كما جاء في الحديث الصحيح، وفي الحديث الذي رواه
أحمد و
مسلم عن
واثلة بن الأسقع مرفوعاً: {
إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، ثم اصطفى من بني إسماعيل كنانة، ثم اصطفى من كنانة قريشاً، ثم اصطفى من قريش بني هاشم، ثم اصطفاني من بني هاشم ...} الحديث، وهذا الحديث ينص على أفضلية إسماعيل عليه السلام، ولا سيما -كما هو القول الصحيح الذي لا يجوز غيره- أنه هو الذبيح، فاصطفى الله إسماعيل من ذرية إبراهيم، (ثم اصطفى من بني إسماعيل كنانة) الذي هو جد قريش، ثم اصطفى من كنانة قريشاً، ثم اصطفى من قريش بني هاشم، ثم اصطفى محمداً من بني هاشم، فهو صلى الله عليه وسلم أفضل الناس نسباً، وأكرمهم أماً وأباً.
لم يخبرنا الله أن هناك نبياً من بني إسماعيل قبله صلى الله عليه وسلم، ولكنه صلى الله عليه وسلم في الفضل وأمته في الكثرة والعدد أعظم وأكثر من بني إسرائيل جميعاً؛ وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم وأمته ترجح ببني إسرائيل بمجموع أنبيائهم وأتباعهم، والله تعالى إنما قص علينا في القرآن قصص بني إسرائيل أكثر من غيرهم؛ لأن الأنبياء فيهم أكثر، ولأنهم الأمة الذين اختارهم الله أولاً من حيث الزمن، فلما ظهر أنهم غير أهلٍ للاختيار -والله عليم بذلك لكن ليظهر ذلك لهم، وليكشفه للعالم أجمع- نقل الله النبوة إلى الفرع الآخر، وهو فرع إسماعيل، فكانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً في
صحيح البخاري عن
أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {
بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً، حتى بعثت في القرن الذي كنت فيه} فهو صلى الله عليه وسلم كان في أفضل القرون، وهذا دليل على تفضيل العرب وقد ثارت العصبية الجاهلية في هذه الأمة في آخر عهد بني أمية، واشتدت حتى عطلت الفتوحات، ولو قرأتم قصة الفتوحات في
بلاد ما وراء النهر، في
التركستان وفي
الأندلس ؛ حين دخلوا إلى
أوروبا، لوجدتم أن من أسباب تأخر الجهاد وعرقلته نشوب العصبية القبلية بين عرب الشمال وعرب الجنوب.. عرب مضر وعرب
اليمن، وهذه الجاهلية بدأت مبكرة، واختلفوا بسببها اختلافاً كبيراً.
والحاصل أن ما ذكرناه من نسب النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أفضلية أبناء إسماعيل، و
ابن حزم له كلام حسن عندما تعرض لهذه المسألة في الأنساب، يقول: الأمر إما أن يكون بالجاهلية أو بالإسلام -يعني: هذه المفاضلة إما أن تكون بالجاهلية أو بالإسلام- فأما ما في الجاهلية، فما علمنا شاعراً ظهر في عرب الجنوب إلا وفي الشمال من هو أفضل منه.
ثم قال: وأما في الإسلام، فمحمد صلى الله عليه وسلم من مضر، فإن قيل: نحن لا نتكلم في الأنبياء، قلنا: فإن المهاجرين من مضر، والأنصار من
اليمن، والمهاجرون أفضل من الأنصار، ويكفي أن منهم الخلفاء الراشدين الأربعة.
وعلى العموم فهذه أمور تبحث في علم النسب، والمقصود هو أفضلية هذا البيت الكريم ومن انتسب إليه، وهو بيت إبراهيم عليه السلام، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {
الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم} .
ويبقى إشكال قد ألمحنا إليه من قبل، وهو أن الله جعل في ذرية إبراهيم النبوة والكتاب، فما يكون حال عيسى بن مريم عليه السلام؟ هل هو من ذرية إبراهيم مع أنه ليس له أب؟ فكيف يكون من ذرية إبراهيم كما قال: ((
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ))[الأنعام:84-85]؟! نقول: لا إشكال في هذا؛ لأن عيسى هو ابن
مريم، و
مريم بنت عمران، وأبوها عمران من بني إسرائيل، والكل من بيت يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، فلا إشكال في أن عيسى من بني إسرائيل، ومن ذرية إبراهيم عليه السلام.